فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوح.
{رُسُلًا إلى قَوْمِهِمْ} كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغيرهم.
{فَجَاءُوهُمْ بالبينات} أي بالمعجزات.
{فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} التقدير: بما كذب به قوم نوح من قبل.
وقيل: {بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل يوم الذَّر، فإنه كان فيهم من كذّب بقلبه وإن قال الجميع: بلى.
قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم؛ مثل: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].
{كَذَلِكَ نَطْبَعُ} أي نختم.
{على قُلوبِ المعتدين} أي المجاوزين الحدّ في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا.
وهذا يردّ على القدرية قولهم كما تقدّم. اهـ.

.قال الخازن:

{ثم بعثنا من بعده} يعني من بعد نوح: {رسلًا إلى قومهم} لم يسم هنا من كان بعد نوح من الرسل وقد كان بعد نوح هود وصالح وغيرهما من الرسل: {فجاؤوهم بالبينات} يعني بالدلالات الواضحات والمعجزات الباهرات التي تدل على صدقهم: {فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل} يعني أن أولئك الأقوام والأمم التي جاءتهم الرسل جروا على منهاج قوم نوح في التكذيب ولم يزجرهم ما جاءتهم به الرسل ولم يرجعوا عما هم فيه من الكفر والتكذيب: {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} يعني مثل إغراقنا قوم نوح بسبب تكذيبهم نوحًا كذلك نختم على قلوب من اعتدى وسلك سبيلهم في التكذيب. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}
من بعده أي: من بعد نوح رسلًا إلى قومهم، يعني هودًا وصالحًا ولوطًا وإبراهيم وشعيبًا.
والبينات: المعجزات، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاءوا به.
وجاء النفي مصحوبًا بلام الجحود ليدل على أنّ إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل.
والمعنى: أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها، كأن لم يبعث إليهم أحد.
ومن قبل متعلق بكذبوا أي: من قبل بعثة الرسل.
وقيل: المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول، ثم لحوا في الكفر وتمادوا، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجهم في الكفر وتماديهم.
وقال يحيى بن سلام: من قبل معناه من قبل العذاب، وهذا القول فيه بعد.
وقيل: الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي: فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، يعني: أن شنشنتهم واحدة في التكذيب.
قال ابن عطية، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو: أن تكون ما مصدرية، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي: من سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى.
والظاهر أنّ ما موصولة، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: {بما كذبوا به}.
ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير.
وقرأ الجمهور: نطبع بالنون، والعباس بن الفضل بالياء، والكاف للتشبيه أي: مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر. اهـ.

.قال أبو السعود:

{ثُمَّ بَعَثْنَا} أي أرسلنا: {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوحٍ عليه السلام: {رُسُلًا} التنكير للتفخيم ذاتًا ووصفًا أي رسلًا كرامًا ذوي عددٍ كثير: {إلى قَوْمِهِمْ} أي إلى أقوامهم لكن لا بأن أرسلنا كلَّ رسولٍ منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم ما، أيَّ قومٍ كانوا بل كلُّ رسولٍ إلى قومه خاصة مثلُ هودٍ إلى عاد وصالحٍ إلى ثمودَ وغير ذلك ممن قُصَّ منهم ومن لم يُقَصّ: {فَجَاءوهُم} أي جاء كلُّ رسولٍ قومَه المخصوصين به: {بالبينات} أي المعجزات الواضحةِ الدالةِ على صدق ما قالوا والباءُ إما متعلقةٌ بالفعل المذكورِ على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالًا من ضمير جاءوا أي ملتبسين بالبينات، لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ له حسب اقتضاءِ الحِكمة فإنَّ مراعاةَ انقسامِ الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين ضميري جاءوهم كما أشير إليه: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بيانٌ لاستمرار عدمِ إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ إيمانِهم كما مر مثلُه في هذه السورة الكريمة غيرَ مرة أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوامِ في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بل كان ذلك ممتنعًا منهم لشدة شكيمتِهم في الكفر والعناد، ثم إن كان المحكيُّ آخرَ حال كلِّ قومٍ حسبما يدل عليه حكايةُ قوم نوحٍ فالمراد بعدم إيمانِهم المذكورِ هاهنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه في قوله عز وجل: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} تكذيبُهم من حيث مجيءِ الرسلِ إلى زمان الإصرارِ والعناد وإنما لم يُجعل ذلك مقصودًا بالذات كالأول حيث جُعل صلةً للموصول إيذانًا بأنه بيِّنٌ بنفسه غنيٌّ عن البيان، وإنما المحتاجُ إلى ذلك عدمُ إيمانِهم بعد تواترِ البيناتِ الظاهرةِ وتظاهُرِ المعجزاتِ الباهرةِ التي كانت تَضْطَرُّهم إلى القَبول لو كانوا من أصحاب العقول، والموصولُ الذي تعلق به الإيمانُ والتكذيب سلبًا وإيمانًا عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها.
وإن كان المحكيُّ جميعَ أحوالِ كل قومٍ منهم فالمرادُ بما ذُكر أولًا كفرُهم المستمرُّ من حين مجيءِ الرسلِ إلى آخره، وبما أشير إليه آخرًا تكذيبُهم قبل مجيئِهم فلابد من كون الموصولِ المذكور عبارةً عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها الرسلُ قاطبةً ودعَوا أممَهم إليها آثرَ ذي أثيرٍ لاستحالة تبدلِها وتغيرها مثلُ ملة التوحيد ولوازمِها، ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا بكلمة التوحيد قط بل كان كلُّ قومٍ من أولئك الأقوام يتسامعون بها من بقايا من قبلهم كثمودَ من بقايا عادٍ وعادٍ من بقايا قوم نوحٍ عليه السلام فيكذبونها ثم كانت حالتُهم بعد مجيء الرسلِ كحالتهم قبل ذلك كأن لم يُبعث إليهم أحدٌ، وتخصيصُ التكذيبِ وعدمِ الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدِلالة النص، فإنهم حيث لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافةُ الرسلِ فلأَن لا يؤمنوا بما تفرَّد به بعضُهم أولى، وعدمُ جعل هذا التكذيبِ مقصودًا بالذات لِما أن عليه يدورُ أمرُ العذابِ والعقابِ عند اجتماعِ المكذِّبين هو التكذيبُ الواقعُ بعد الدعوةِ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولًا} وإنما ذُكر ما وقع قبلها بيانًا لعراقتهم في الكفر والتكذيبِ، وعلى التقديرين فالضمائرُ الثلاثةُ متوافقةٌ في المرجع، وقيل: ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى قوم نوحٍ عليه السلام، والمعنى فما كان قومُ الرسلِ ليؤمنوا بما كَذب بمثله قومُ نوح، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وقيل: الباءُ للسببية أي بسبب تعوُّدِهم تكذيبَ الحقِّ وتمرُّنِهم عليه قبل بعثة الرسلِ، ولا يخفى أن ذلك يؤدّي إلى مخالفة الجمهورِ من جعل ما المصدريةِ من قبيل الأسماءِ كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِع إليها الضميرُ وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونِه مركوزًا في الأذهان ما لا يخفى من التعسف: {كذلك} أي مثلَ ذلك الطبعِ المُحكَم: {نَطْبَعُ} بنون العظمةِ وقرئ بالياء على أن الضميرَ لله سبحانه: {على قُلوبِ المعتدين} المتجاوزين عن الحدود المعهودةِ في الكفر والعناد المتجافين عن قَبول الحق وسلوكِ طريقِ الرشادِ، وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنَهم لانهماكهم في الغيّ والضلالِ وفي أمثال هذا دلالةٌ على أن الأفعالَ واقعةٌ بقدرة الله تعالى وكسب العبد. اهـ.

.قال الألوسي:

{ثُمَّ بَعَثْنَا} أي أرسلنا: {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوح عليه الصلاة والسلام: {رُسُلًا} أي كرامًا ذوي عذر كثير فالتنكير للتفخيم والتكثير: {إلى قَوْمِهِمْ} قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول الله إلى قوم خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا، وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح، واختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل صقع منها، وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبيين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، قال ابن عطية: الراجح عند المحققين هو الثاني، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلى الله عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة.
وزعم بعضهم أن الغرق كان عامًا مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك الله تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل.
وفي قوله سبحانه: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] نوع إشارة إلى ذلك.
نعم قد ثبت لنون عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معهم وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده مما لا يتنازع فيه، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه: {لِيَكُونَ للعالمين نَذِيرًا} [الفرقان: 1] فأمر الاختصاص أظهر وأظهر.
{فَجَاءوهُم} أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به: {بالبينات} أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة، وإلى نفي إرادة الإتيان ببينة وإرادة الإتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام، ثم قال: فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري: {جاؤوهم} كما أشير إليه، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إشافة القوم إلى ضمير: {بَعْدِهِ رُسُلًا} وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضى لانقسام الآحاد على الآحاد، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك.
وبعد هذا كله إذا اعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات، وقيل بانقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون لكل رسول بينة جاء بها كما أن باع القوم دوابهم لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ماله من الدواب وهم يعم الدابة الواحدة وغيرها، وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لاستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا.
وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا، والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج، فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي أي فما صح ولا استقام لهم في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم ومزيد عنادهم، وضمير الجمع هنا للقوم المبعوث إليهم وكذا في قوله تعالى: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} والباء فيه صلة يؤمنوا و: {مَا} موصولة والمراد بها جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها، والمراد بعدم إيمانهم بها إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبتكذيبهم من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان الاصرار والعناد، وهذا بناء على أن المحكي آخر أحوالهم حسبما يشير إليه حكاية قوم نوح عليه السلام، ولم يجعل التكذيب مقصودًا بالذات كما جعل عدم إيمانهم كذلك إيذانًا بأنه بين في نفسه غني عن البيان، وإنما المحتاج إليه عدم إيمانهم بعد تواتر البينات وتظاهر المعجزات التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أهل العقول، وإذا كان المحكى جميع أحوال أولئك الأقوام فالمراد بعدم إيمانهم المفاد بالنفي السابق كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان إصرارهم وبعدم إيمانهم المفهوم من جملة الصلة كفرهم قبل مجيء الرسل عليهم السلام، ويراد حينئذ من الموصول أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها كالتوحيد ولوازمه مما يستحيل تبدله وتغيره ومعنى تكذيبهم بذلك قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا أهل جاهلية بحيث لم يسمعوا بذلك قط بل كأن كل قوم يتسامعون به من بقايا من قبلهم فيكذبونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد، وقيل: المراد أنهم لم ينتفعوا بالبعثة وكانت حالهم بعد البعثة كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية والأول أولى، وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص، فإنهم حيم لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه الكافة فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به البعض أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودًا بالذات لأن ما عليه يدور أمر العذاب عند اجتماع التكذيبين هو التكذيب الواقع بعد البعثة والدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وإنما ذكر ما وقع قبل بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وفكك بعضهم بين الضمائر فقيل: ضمير: {كَانُواْ} و: {يُؤْمِنُواْ} لقوم الرسل وضمير: {كَذَّبُواْ} لقوم نوح عليه السلام أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله، والمراد به ما بعث الرسل عليهم السلام لإبلاغه.
وجوز على هذا القول أن يراد بالموصول نوح نفسه أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بنوح عليه السلام إذ لو آمنوا به آمنوا بأنبيائهم عليهم السلام ولا يخفى ما في ذلك، ومن الناس من جعل الباء سببية و{ما} مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية، وفيه مخالفة الجمهور من جعل: {ما} مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية، وفيه مخالفة الجمهور من جعل: {مَا} المصدرية إسما كما هو رأي الأخفش وابن السراج ليرجع الضمير إليها، وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزًا في الاذهان ما لا يخفى من التعسف، وقيل: {مَا} موصوفة والباء للسببية أيضًا أو للملابسة أي بشيء كذبوا به وهو العناد والتمرد وهو كما ترى: {كذلك} أي مثل ذلك الطبع المحكم: {نَطْبَعُ} فالإشارة على حد ما قرر في قوله سبحانه: {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] ونظائره مما مر، وجعل الإشارة إلى الاغراق كما فعل الخازن ليس بشيء، والطبع يطلق على تأثير الشيء بنقش الطابع وعلى الأثر الحاصل عن النقش والختم مثله في ذلك على ما ذكره الراغب أيضًا، وذكر أنه تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وأنه أعم من الختم وأخص من النقش، والأكثرون على تفسيره بالختم مرادًا به المنع أي نختم: {على قُلوبِ المعتدين} أي المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد ونمنعها لذلك عن قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد، وقد جاء الطبع بمعنى الدنس ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه، وبعضهم حمل ما في الآية على ذلك، وفسره المعتزلة حيث وقع منسوبًا إليه تعالى بالخذلان تطبيقًا له على مذهبهم، ومن هنا قال الزمخشري: إنه جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله تعالى ومنعه التوفيق واللطف فلا يزال كذلك حتى يتراكم الرين والطبع على قلبه، ومراده كما قيل أن: {نَطْبَعُ} بمعنى نخذل على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية لكن لما كان الطبع الذي هو الخذلان تابعًا لعنادهم ولجاجهم لازمًا لهما أجرى مجرى الكناية عنهما.
وقرئ: {يَطْبَعُ} بالياء على أن الضمير لله سبحانه وتعالى. اهـ.